مُعلم بدرجة وزير
28/12/2024
كعادته، بعد يوم طويل وشاق، اعتاد المعلم والأستاذ نازح الجلوس أمام التلفاز، حيث يتنقل بين القنوات وهو يتناول طعامه البسيط، وعادة ما يكون عشاءه مكونًا من خبز بسيط مع الجبن. لم يكن نازح متزوجًا أو لديه أطفال، ولكنه اعتاد على القيام بكل شيء بنفسه منذ صغره، فقد أدت وفاة والدته ووالده في سن مبكرة، وعدم وجود أشقاء له، إلى أن يصبح نازحًا بمعنى الكلمة: نازح عن كل شيء، فقرر الاعتماد على نفسه في حياته. كان يشعر أحيانًا بالوحدة، لكنه تعود على ذلك، وأصبح جزءًا من حياته اليومية.
لكن اليوم كان مختلفًا عن كل الأيام، فنازح كان معلمًا لمادة اللغة العربية في مدرسة "زيد بن حارثة" الحكومية، لكنه كان يعلم التاريخ جيدًا ويفهمه ويعيه أكثر من معلمي مادة التاريخ في مدرسته. كان يتنقل بين الكتب والمراجع التاريخية بكل شغف، ويسعى دائمًا لإثراء نفسه بعلم التاريخ، ولذلك، لم يكن يوم نازح سعيدًا؛ إذ اكتشف حين شاهد قنوات تلفزيونية تبث فيلمًا حربيًا عن حرب ڤيتنام، حيث أن الجيش الأمريكي يُصور كقوة بطل، بينما يُصور الڤيتناميون كأعداء. شعر أن هناك خطأً في هذا العرض.
أزال نازح نظارته، مسح عدساتها بهدوء، ثم وضعها مرة أخرى لعل الخطأ يظهر، لكنه ظل يراقب نفس المشهد باستياء، مستمرًا في الكذب. فقام بتغيير القناة، لكنه فوجئ بأن القناة الأخرى تعرض نفس الفيلم، فاستمر في تغيير القنوات، حتى وصل إلى قناة أخرى تبث نشرة أخبار، حيث وقفت المذيعة بشموخ تعلن عن ذكرى حرب ڤيتنام وتصور الجنود الأمريكيين كأبطال، مشيرة إلى أنهم كانوا يدافعون عن الأمة.
قال نازح بغضب، وهو يضغط على أصابعه في قبضته:
"ما هذا العبث؟ كانت أمريكا هي القوة العدائية المغتصبة، كيف تظهرونهم كأبطال؟ تبا لكم ولأكاذيبكم التي تلقنونها للأطفال والناس!"
ثم أغلق التلفاز، وترك طعامه، وقام غاضبًا.
في اليوم التالي، صباحًا، دخل نازح إلى صفه، وحيا طلابه الذين كانوا يجلسون في مقاعدهم الخشبية المبعثرة داخل الصف، وتبادلوا التحية بضحكات عفوية، ثم قال لهم:
"ما هو درس اليوم؟"
رد الطلاب بصوت واحد وهم يبتسمون:
"درس عن الكذب، يا أستاذ نازح!"
أخرج نازح قلمه، وكتب كلمة "الكذب" في منتصف السبورة البيضاء. همَّ بكتابة الأفكار، ثم توقف فجأة، ونظر إلى الطلاب وقال:
"ما رأيكم في أن نتخلى عن الطريقة التقليدية في التعليم، وأعلمكم بطريقة جديدة؟"
نظر إليه الطلاب بنظرات فضولية، وقالوا بصوت واحد، بحماس:
"نعم، يا أستاذ نازح، فلقد مللنا الحصص الطويلة والنمطية!"
ابتسم نازح وقال:
"إذاً، بسم الله."
أخرج نازح جهاز كمبيوتر محمول من حقيبته الجلدية المتآكلة، وضعه أمام الطلاب، وجمعهم حوله في دائرة صغيرة على المقاعد. ثم فتح فيلمًا على الشاشة، وبدأ يعرض مشهدًا يظهر جنودًا يُقاتلون في معركة عنيفة.
وقال لهم، بنبرة هادئة لكنها مليئة بالتحدي:
"أمامكم الآن فيلم حربي يظهر مجموعتين تتقاتلان، وقد ضيقت الكادر لغرض معين سنكتشفه بعد قليل. أريد منكم أن تخبروني باستنتاجاتكم بعد مشاهدة الخمس دقائق القادمة."
أشار الطلاب بإيماءة نعم دون أن يتحدثوا، وكانت حماستهم مرتفعة وبادرة لأنهم سيشاهدون فيلمًا بدلًا من الحصص المملة. فقام نازح بتشغيل الفيلم.
ظهر في الكادر مجموعة من الجنود يقاتلون ويموتون وهم يحاولون الوصول إلى مجموعة أخرى، واستمر هذا الوضع لمدة خمس دقائق تقريبًا. ثم أوقف نازح العرض وقال:
"هيا، أخبروني باستنتاجاتكم."
رفع أحد الأطفال يده فأشار له نازح، فقال الفتى بشغف:
"إن الجنود الذين في الفيلم هم الأبطال، بالتأكيد يحاربون من أجل قضية عظيمة."
قال طفل آخر، وهو يحدق في الشاشة:
"يا أستاذ نازح، هؤلاء الجنود أقوياء جدًا، ربما يحاربون من أجل عائلاتهم."
وقال آخر بنبرة متأثرة:
"القوة التي يقاتلونها هي الشر، كيف يمكن لأحد أن يفعل ذلك بأناس أبرياء؟"
ابتسم نازح وقال، وهو يراقب الوجوه التي لم تزل تحمل علامات البراءة والجهل:
"أحسنتم. ولكن، ما رأيكم إذا استكملنا مشاهدة الفيلم وفتحنا الكادر بالكامل لرؤية الحقيقة؟"
أشار الأطفال بإيماءة نعم، فقام نازح بتشغيل الفيلم وفتح الكادر بشكل كامل.
كانت صدمة الأطفال واضحة على وجوههم عندما اكتشفوا أن الجنود الذين كانوا في الكادر الأول هم القوة المغتصبة، وأنهم كانوا يحاولون أخذ أرض مجموعة أخرى، وطريقتهم في قتل الأبرياء من نساء وأطفال كانت دليلًا على ظلمهم وبطشهم.
عندما رأى نازح تأثر الطلاب، أوقف الفيلم وقال:
"الآن، ما رأيكم بعد أن شاهدتم الحقيقة كاملة؟"
رفع أحد الأطفال يده وقال، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الخيبة:
"الجنود الذين رأيناهم في البداية كانوا هم السيئين! لقد تم خداعنا."
قال طفل آخر، وهو ينظر إلى زملائه بعيون واسعة:
"لقد كانت القوة الأخرى هي التي تقاوم وتدافع عن أرضها ضدهم. لقد خُدعنا من المشهد الأول!"
وقال طفل آخر، وهو يمسك رأسه بيديه:
"عندما فتحت الكادر يا أستاذ نازح، ظهرت الحقيقة، الجنود الخضر يكذبون ويمثلون دور المظلومين."
نظر نازح إليهم بابتسامة هادئة وقال:
"أعتقد أنكم الآن فهمتم معنى الكذب، أليس كذلك؟ لا تقبلوا أي شيء تُعرضه لكم وسائل الإعلام أو أي شخص آخر دون أن تتحققوا من الحقيقة بأنفسكم. فليس كل ما يعرضه التلفاز أو يُقال هو الحقيقة. إنهم يحاولون إخفاء الحقيقة ويدسون الأكاذيب ليتعاطف الناس معهم. الكذب شيء سيء جدًا."
ثم أضاف:
"وأريدكم أن تتذكروا: لا تكذبوا أبدًا، ولا تتأثروا بأحداث أو معلومات إلا بعد التأكد منها. الآن، لدي سؤال لكم."
قال الطلاب بصوت واحد:
"تفضل يا أستاذ."
قال نازح، مبتسمًا:
"ماذا ستفعلون إذا أخبرتكم أن واحدًا زائد واحد يساوي خمسة؟"
نظر الطلاب إلى بعضهم البعض، ثم قال أحدهم بصوت خافت وهو ينظر إلى الأرض:
"سنقول إنك مجنون يا أستاذ."
ضحك الأطفال ومعهم نازح، ثم أكمل نازح وقال:
"أحسنت، ولكن ماذا لو أقسمت لكم أن 1 + 1 = 5؟"
دهش الطلاب، ونظروا إلى بعضهم البعض، ثم قال أحدهم:
"ربما نصدقك يا أستاذ نازح، لأنك أقسمت بالله."
ابتسم نازح وقال:
"أحسنتم، ولكن عليكم أن تتذكروا: ليس كل من يقسم بالله صادقًا. أول من أقسم بالله كذب كان الشيطان عندما أقسم لأبينا آدم ليقنعه بأكل ثمرة من الشجرة التي نهاه الله عنها. لذا، عندما تجدون شخصًا يقسم بالله، لا تصدقوا كل ما يقوله، فقد يكون كاذبًا يحاول أن يُقنعكم بشيء غير صحيح."
قال الطلاب جميعًا:
"نعم، فهمنا يا أستاذ."
قال نازح مبتسمًا:
"الآن، تبقى ساعة واحدة على انتهاء الحصة. هيا بنا نذهب إلى الملعب ونلعب قليلاً، ولكن أريد من كل واحد منكم أن يكتب لي في المنزل موضوعًا عن الكذب وتفسيره."
أومأ الطلاب بالإيجاب، لكنهم لم يتحركوا. فدهش نازح وقال:
"لماذا لا تتحركون؟ سنذهب إلى الملعب."
قال أحد الأطفال مبتسمًا:
"يجب أن تتحرك أولًا، ربما تكذب علينا وتخدعنا!"
ضحك نازح، وضحك الأطفال معه، وقال:
"أحسنتم يا أطفال، أحسنتم!"
ثم توجه نازح إلى الملعب مع الأطفال للاستمتاع.