لغات العالم
27/12/2024
لم يكن ضعيفًا أو هزيلًا خلال سنوات دراسته في الجامعة، بل كان يواجه كل تحدٍ بابتسامة خفيفة، رغم أن الأحاديث التي كانت تُقال حوله كانت تثير في داخله ثورة لا تهدأ. كلمات كانت تتساقط عليه مثل الحجارة، وجعلت عقله يُعيد المشاهد مرارًا وتكرارًا حتى قبل نومه. "لم يؤمن به أحد قط"، كانت تلك هي الحقيقة التي عاشها، لكن عزيمته كانت أقوى من ذلك. حاولوا محاربته بكل أسلحة الفشل، ولكن كان في قلبه إصرار على أن يكون شيئًا مختلفًا. كانوا يحكمون عليه بالفشل لمجرد رسوبه سنة في الجامعة، ولكنهم لم يعرفوا شيئًا عن صبره أو قوته الداخلية. حتى أصبح اسمه على ألسنة الجميع، وخاصة عائلته، بـ "حسام الراسب".
كان حسام يعيش أحيانًا في لحظات من الضعف النفسي، يتساءل إن كان سيتحقق حلمه أم أنه مجرد حلم بعيد. وفي تلك اللحظات، كان يسترجع كلمات الأمل التي زرعها في نفسه: "كل يوم فرصة، وكل فرصة أمل". تلك الكلمات كانت تمثل له نقطة التحول في أصعب الأوقات.
بعد أن أنهى تعليمه وأصبح أكثر نضجًا، اكتشف حسام أن أمامه فرصة ذهبية للسفر إلى الخارج. لم يكن حلمه الهروب من وطنه، بل كان يحمل في قلبه رغبة حقيقية لتعلم المزيد، لتطوير نفسه وإثراء مجتمعه بالمعرفة التي يكتسبها. كانت لغاته الكثيرة نقطة قوته، وها هو يطمح للاستفادة من ثقافات العالم.
فرنسا كانت محطته الأولى. استقر هناك لمدة عامين، استغل فيهما كل فرصة للتعلم والتطوير. بدأ يشعر بالفرحة الحقيقية عندما اكتشف معلومة جديدة أو صيغة علمية يمكنه تطبيقها في وطنه. وكان يردد في نفسه "كل يوم فرصة، وكل فرصة أمل". ولكن في أحد الأيام، وفي حديقة عامة، شاهد مجموعة من الأشخاص يسبون ويهينون من يعتبره قدوته الأولى، النبي محمد صلى الله عليه وسلم. قلبه لم يتوقف عن النبض، لكنه قرر أن يكون في موقفه هذا أكثر من مجرد شخص عابر. تحدث إليهم بوضوح، وعيناه مليئتان بالثقة، ووقف بكل شجاعة يدافع عما يؤمن به، حتى ولو لم يستمعوا له. ولكنه عمل بنصيحة رسوله: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان".
لكن هذا الموقف لم يكن دون تبعات. في اليوم التالي، عندما قابله أحد أصدقائه في فرنسا، قال له:
"كنت أراك شخصًا حكيمًا، لكن هذا التصرف كان متطرفًا."
ابتسم حسام وقال:
"من لا يقف مع الحق، لن يكون له مكان في هذه الحياة."
ألمانيا كانت المحطة التالية. لم تكن الأرض الجنة التي توقعها، بل كانت مليئة بالظواهر التي جعلت قلبه يضطرب. كانت الحريات تتدفق في الشوارع، ولكنها كانت حريات على حساب القيم. في المظاهرات، شاهد كيف كانت بعض الحركات تجهر بتصرفات كان يراها بعيدة عن الفطرة، إذ يدعون الرجل إلى حب الرجل، وكذلك السيدات تحت مظلة الحرية. لكن حسام كان هناك، في قلب تلك الحشود، لا يرفع سيفًا، بل كلمات حادة تنبض بالحق، يرفعها في وجه كل من يحاول تشويه الأخلاق، ويُريهم أن فطرة الله هي أن يكون الرجل مع المرأة، وما دون ذلك فهو من عمل الشيطان.
وفي أحد الأيام، وجد نفسه في مناظرة حادة مع أحد زملائه في الجامعة الألمانية، الذي كان يؤمن أن الأديان مجرد اختراعات بشرية. كان كلامه يتحدى كل ما يؤمن به حسام. فقال له زميله بعصيية:
"الدين مجرد أداة للتحكم في البشر"
أجابه حسام بعينين مليئتين بالصدق:
"من ليس له مبدأ ثابت، هو من يعيش في فوضى، أما الدين فيحمل الإنسان إلى معانٍ أسمى، فمتى كانت البشرية تتقدم عندما تخلت عن قيمها؟"
أما أمريكا، فقد كانت هي البلد التي شعر فيها بالانفصال التام عن كل شيء. كان كل شيء يبدو له مزيفًا: من سياسة الدولة إلى الأيديولوجيات التي يسيرون وراءها. ورغم السنوات التي قضاها هناك، إلا أنه لم يشعر أبدًا أنه ينتمي إلى هذا المكان، لكنه ظل متمسكًا بمبدئه. كان شعاره: وحده الحق، وكان منطق الفطرة دليلًا له. وظل متمسكًا به في وجه كل من بطش وظلم، وكان هذا واضحًا حين وجد هناك من يعلن عن عدم وجود الله ويدعو الناس لتصديق الهراء. شعر وكأن كل شيء يتداعى من حوله. ولكنه صمد، كما كان في كل مكان، وصار يتحدث عن الحق، ويشرح للمناصرين للرجل كيف أن كلامه كذب، وأن هذا الكون لم يُخلق عبثًا.
أثناء تجواله في البلدان المختلفة، كان في ذهنه هدف واحد: القدس. كانت تلك الأرض الحبيبة التي لطالما حلم بزيارتها. وعندما جاء يوم الرحيل إليها، كان حدسه يخبره أن الرحلة قاربت على الانتهاء. كانت فلسطين، رغم صعوبتها، هي المكان الذي شعر فيه بأسمى معاني الراحة النفسية والشرف. وفي لحظة من اللحظات التي لا تُنسى، شهد جنود الاحتلال يعتدون على امرأة فلسطينية. لم يتردد لحظة واحدة، بل وقف أمامهم مدافعًا عن الحق بأقصى ما يستطيع، فلقد رأى في هذه المرأة أمه أو أخته، فكل الأحوال هي من عِرضه، فلم يقدر على السكوت.
في تلك اللحظة، شعر بقلبه ينبض بشدة، وكأن الأرض تحت قدميه تتدفق بالطاقة. لم يكن يفكر في خطره، بل كان كل تفكيره في الحفاظ على شرف هذه الأمة.
ولكن حين تشتبك مع جنود الاحتلال، يصبح كل شيء ممكنًا. فعقيدتهم المميزة قائمة على الغدر، لذلك لم يستبعد حسام الرصاصة الغادرة التي اخترقت صدره، لتجعل دمه يختلط بالأرض الطاهرة، ويؤكد لحدسه أن الرحلة قد انتهت بالفعل، ولكن ما أجملها من نهاية عند الله. لم يكن حسام شامخًا في حياته فقط، بل حتى في موته ظل شامخًا. في تلك اللحظة، أدرك الجميع أن حسام لم يكن مجرد شخص، بل كان فكرة، كان رمزًا للثبات على الحق مهما كانت التضحيات.
لم يكن حسام يتحدث لغات العالم التي نعرفها، بل كان يتحدث بلغة الشجاعة في فرنسا، بلغة الرجولة والفطرة السليمة في ألمانيا، بلغة الإنسان الذي لا يرضى إلا بالحق في أمريكا، بلغة المسلم العربي الأصيل في فلسطين. في كل مرحلة، كان يثبت للجميع أن الحياة ليست مجرد رحلة من مكان إلى آخر، بل هي صراع مع الذات أولاً، ثم مع العالم من حوله.