بئس الابن أنا

18/01/2025

Cover Image for بئس الابن أنا

"لقد أخبرتُك أكثر من مرة أنني لن أقدر على هذه المعيشة، لن أستطيع تحمّله في بيتي أكثر من هذا. لقد قلت لي أنه سيجلس معنا لبضع أيام، لكن الآن أصبحنا شهورًا وسندخل في سنين. لا أريده في منزلي بعد الآن."

جمل خرجت من فم زوجته لمسمعه، كانت أقسى عليه من رصاصة تخرج من بندقية لتستقر في رأسه وتنهي حياته. ليجد نفسه يقول لها:

"يا عزيزتي، لن يطول الأمر، أعدكِ، سأجد مكانًا آخر. أنا أبحث له عن دار مسنين يحتويه، لكنني لا أجد هنا في هذه النواحي. وأنا أريده بجانبي، في النهاية هو أبي يا عزيزتي!"

لتسارعه زوجته قائلة:

"ليست مُعضلتي، فأنا أراعيك أنت وأولادك، لن أستطيع رعاية رجل مسن يعاني من الزهايمر ولا يتذكر أنك ابنه، بل ويعتقد أنك ما زلت مراهقًا أو في العاشرة! لقد سأمت من كل هذا، ابتعد عن طريقي."

ثم دفعت زوجها بيدها وهي تذهب باتجاه باب الغرفة غاضبة، وقبل أن تخرج قالت:

"يا والدك يا أنا في هذا البيت اليوم!"

ثم توجهت إلى غرفة الطبخ دون أن تنتظر رده، وتركت هادي وحده في الغرفة لا يدري ماذا يفعل أو ماذا يقول!

بعد خروجه من المرحاض وجاهزيته للعمل، توجه هادي إلى الغرفة المجاورة لغرفته كعادته، والتي يقطن بها العجوز الذي أصبح مشكلة كبيرة له الآن؛ لأن زوجته تطالبه بخروجه من المنزل في أسرع وقت حتى لا ترحل هي وتتركه وحده في هذه المُعضلة. دخل إلى الغرفة ليجد الرجل العجوز، الذي يشبهه في كثير من الملامح، جالسًا على كرسيه ويمسك بيده سيارة لعبة ويلعب مع حفيده في مرح وكأنه طفل في العاشرة من عمره. وعندما لمح العجوز هادي على الباب، نظر إليه بغضب وقال:

"لماذا خرجت من غرفتك؟ أنت معاقب لأنك لم تتم فروضك المدرسية وتلهو في الشارع. اذهب إلى غرفتك مسرعًا!"

نظر له هادي بفتور وقال:

"أبي، أنا كبير ومتزوج، وأنت الآن تلعب مع ابني!"

قال له العجوز بغضب:

"كبير على نفسك؟! تقول لأبيك أنك كبير؟ اذهب إلى غرفتك وذاكر يا فاشل حتى لا ترسب كما يحدث كل مرة! أمك هي السبب في كل هذا، هي من ربتك على المياعة. أين هي أمك؟ يا علياء، يا علياء..."

بهدوء وفتور، قال هادي:

"أبي، أمي ماتت منذ سنين. كفا..."

لم يكمل كلامه، حيث قام العجوز بقذف السيارة اللعبة التي كانت بيده نحوه، وهو يقول:

"أخرس يا كلب! تقول عن أمك إنها ماتت؟ سأضربك بحق! أين عصاي حتى أربيك؟"

أخذ العجوز ينظر حوله، فباغته هادي واقترب سريعًا من كرسيه، مال بجسده عليه، وأمسك بكلتا يديه ذراعي الكرسي، وقال بغضب وحنق:

"أبي، أنت تفسد حياتي وتفسد منزلي، وأنا سئمت من كل هذا. حتى أنك لا تتذكر أنني ابنك في بعض الأحيان، وتعاملني كما لو أنني طفل صغير أمام ولدي هذا، وأنا لن أقدر على التحمل أكثر من هذا..."

لم يعطِه العجوز الفرصة ليتحدث أكثر، فصفعه على وجهه وقال:

"أنت قليل التربية."

تراجع هادي للخلف من الصفعة غير المتوقعة، ووضع يده على وجنته وقال وهو مصدوم:

"أنت تصفعني؟ هذا آخر يوم لك في بيتي! لقد أصبحت ثقيلًا علي يا أبي، ثقيل..."

ثم توجه إلى ابنه الصغير، وحمله، وخرج به من الغرفة.

بعد تناول هادي الفطور، ومعه تناول ابتسامة زوجته أيضاً؛ بعد سماعها الحديث الذي دار في الغرفة، مر هادي بجانب باب غرفة أبيه ليجد العجوز وهو يقول بصوت خافت ويكررها:

"أنا لست ثقيلًا، يجب أن أرحل...."

لم يعيره هادي أي انتباه، وتوجه نحو باب المنزل عازمًا على الذهاب إلى دار مسنين بدلاً من العمل!

توجه إلى أقرب دار مسنين لمنزله، وبسرعة كالذي يحاول التخلص من حمل ثقيل على ظهره، وقف أمام موظفة الاستقبال وقال:

"أريد أن أودع أبي في الدار، ما هي الأوراق والشروط التي يجب أن أطلع عليها وأملأها؟"

نظرت له الموظفة بتودد وقالت:

"ثوانٍ يا سيدي، سأحضر من يساعدك."

ثم انطلقت سريعًا، وبعد أقل من دقيقة حضر رجل لم يستطع هادي أن يتبين ملامحه. جلس على كرسيه ووضع وجهه بين أوراق كثيرة، ودون النظر إلى هادي، أخرج مجموعة من الأوراق وناولها له قائلاً:

"بعد أن تقرأها، قم بالتوقيع في آخر صفحة."

تناول هادي الأوراق من الرجل وأخذ ينظر إليها. لم تكن أوراقًا عادية بها كلمات، بل كانت عبارة عن صور. كانت المفاجأة قاسية على هادي، حيث كانت مجموعة الصور تحتوي عليه هو ووالده! فمثلاً: أول صورة: كانت صورة هادي ووالده في عيد ميلاده الأول، ووجه والده يظهر عليه ابتسامة تدل على الفرح والانبهار. صورة ثانية: لوالده وهو يحمله في سن السابعة ويجري به إلى المشفى بسبب حرارته المرتفعة. صورة ثالثة: لوالده وهو يظهر أمام محل ملابس ويرفض شراء الملابس من أجل نفسه في العيد ليشتري لهادي. صورة رابعة: لوالده وهو يقترض من صديق له ليدفع مصاريف جامعته. صورة خامسة: لوالده وهو يستبدل معاشه ليتمم له مصاريف زواجه. صورة سادسة: لوالده وهو عائد من العمل في ليلة ممطرة بعد أن عمل نوبتين متتاليتين حتى يؤمن له معيشة هنية.

وصور أخرى كثيرة أمامه، كل صورة تُظهر له كم هو حقير وأن والده تعب وعانى من أجلّه. وعندما نظر إلى الموظف الذي أمامه، كانت الصدمة أكبر، حيث كان هو نفس الشخص! نفس الشكل، نفس الملبس، نفس كل شيء، وكأنه أمام مرآة، أو أمام أخيه التؤام، لكن وجهه كان خاليًا من المشاعر، ونظرته كانت خالية من كل شيء. وعندما طال الصمت، نطق الموظف قائلاً:

"ما بيدك من صور لا تصلح حتى أن تكون خمسة بالمئة مما قدمه لك والدك في عمرك كله. والآن، تريد أن تأتي بكل سهولة لتلقيه هنا وتتركه وحده بعد أن صرخت في وجهه في البيت من أجل أن تنال رضا زوجتك؟ قل لي يا جبان، ما سيفيدك من زوجتك يوم أن تقابل ربك ويسألك لماذا فعلت هذا؟ هل ستخبره لأن زوجتي أخبرتني؟ ستتخلى عنك زوجتك هذه يوم لقاء الله، ولن تبقى معك يوم يفر المرء يا هادي. لقد وصينا الإنسان بوالديه."

ثم قام الموظف وترك المكتب ومشى، بينما بقي هادي واقفًا في مكانه لا يدري ماذا يفعل أو ماذا يقول. فهو بالفعل قد أطاع زوجته على حساب أبيه وعلى حساب ربه. أخذ يستعيد ما مر به في الصباح ودموعه تنساب من عينيه، ظل هكذا حتى سمع صوتًا يأتي من أمامه يقول:

"يا أستاذ، هذه الأوراق التي تسأل عنها."

نظر لوجه الرجل فوجده شخصًا آخر غير الذي شاهده سابقًا، ثم نظر إلى الورق فوجد أنه يتضمن جملًا مكتوبة عليه، وليست صور. وكل شيء تبدل ليعود للواقع ويدرك أنه كان في رحلة طويلة، لكن ما أعظمها من رحلة كشفت له الحقيقة كلها. وبسرعة رمى الورق من يده وتوجه عائدًا إلى المنزل.

ركض عبر طُرقة منزله وسط دهشة من زوجته وهي تسأله عما فعله في الدار، لكنه لم يرد عليها، وانطلق إلى غرفة أبيه. وعندما دخل إليه، وجده نائمًا على الكرسي. فوقف أمامه وقال:

"أبي، أنا آسف جدًا."

ولما لم يجد منه أي رد، رفع يده فوجدها باردة كالثلج. وضع يده ليتحسس نبضه، فتبين أنه منقطع تمامًا. نظر إلى أبيه في حزن شديد وقهر كبير، وهو يتذكر جملة والده قبل أن يرحل:

"أنا لست ثقيلًا، يجب أن أرحل."