اليد اليمنى
19/01/2025
بداخل غرفة متوسطة المساحة، دهنت بالون الرمادي وسقفها بالأبيض الناصع، لُصق على حائط الغرفة بوسترات مختلفة لا تتفق مع بعضها بصلة بتاتًا؛ فتجد حائط لُصق عليه صور ملاكمين كبار وأبطال ملاكمة كأمثال تايسون ومحمد علي، وتجد على حائط آخر لُصق صور لكتاب كبار مشهورين أمثال نجيب محفوظ وأحمد خالد توفيق، وعلى الجانب الأيمن من الغرفة يقبع سرير من طابقين، طابق علوي فارغ وطابق سفلي به شخص يتألم بصمت وهو نأم، شخص يهتز بقوة ويغمض عينيه الاثنين بشدة، صدره يعلو ويهبط بسرعة وكأنه يجري في سباق طويل ليس له نهاية، يحاول بشتى الطرق أن يستيقظ ويخرج من ما هو فيه ولكن يأبى عقله أن يخرجه، ولكن بعد نوبة دامت دقيقتين استيقظ أخيرًا هذا الشخص ولكنه انتفض من مكانه وأخذ وضعية الاتكاء بدلاً من النوم وهو يلهث أنفاسه ويمسك بيده اليمنى وينظر لها ويقلبها وكأنها ليست موجودة وهو يردد:
"لا لا، مجرد حلم، ليس حلم بل كابوس هذا أدق"
بعدما أنهى تفقده ليده نظر جانبه وإذ به يجد شخصًا يشبهه تمامًا بالشكل والملامح ولكن الاختلاف أنه اصلع، كان هذا أخيه التؤام مصعب وهو يقف أمام كيس الملاكمة الذي تدلى من السقف ويرتدي بيده قفازي ملاكمة ويقف عاري الصدر و هو يشاهد أخيه ونوبته التي أصابته والجديدة عليه، فقال:
"ما بك؟ لماذا تنتفض هكذا؟ ولما قميصك مبتل هكذا إن الجو بارد."
مد حكيم يده على الكمود بجانبه حتى يبحث على نظارته، ظل يحرك يده يميناً ويساراً إلى أن قبضت يده عليها، ثم قال وهو يرتديها:
"كان كابوساً لا تقلق"
أشار مصعب ناحية المكتب الموضوع بجانب السرير والذي يعلوه قرابة ال١٠٠ رواية وكتاب في شتى المجالات، وقال:
"قلت لك يجب أن تبتعد عن هذا الورق لفترة حتى لا يؤثر عليك، لربما كنت تحلم بالساحرة الشريرة تأكل ذراعك أو رأسك"
ضحك مصعب على نكتته بمفرده، بينما مازال حكيم تائه قليلاً، إلى أن استوعب ماذا قال أخيه فرد عليه وقال:
"المشكلة ليست بالورق يا أخي، أنت تمارس الألعاب القتالية كل يوم لم أرك يوماً تلكم أحد وأنت نائم."
نظر له مصعب بعدم فهم وقال:
" لأنه لا يوجد أحد سيتجرأ وسيأتي ليضربني وأنا نائم يا أحمق"
وضع حكيم يده على وجهه وقال لنفسه :
" أنت غبي يا أخي، ولن تفهم أبدًا ما أعنيه"
تابع مصعب ضرب كيس الملاكمة، بينما هم حكيم من مكانه يخلع قميصه، لتظهر عظامه البارزة من أسفل قميصه، عكس أخيه مفتول العضلات، ثم قام و جلس على المكتب ونظر إلى الرواية التي لم يُكملها، وقال:
" أنا خائف، لم يكن مجرد كابوساً لقد كانت يدي اليمنى مفقودة، لم تكن هذه المشكلة بل شعرت بأني ضعيف أكثر من أي وقت مضى، وكأني عاري ليس لدي القدرة على فعل أي شيء، سوى الوقوف وتلقي ضربات وصدمات من أي نوع كانت.."
بينما هو يحادث نفسه سمع صوت يأتي من خلفه يقول:
" ربما كان الجاموس يا أخي!"
نظر حكيم خلفه سريعاً، وبانت ملامح الخوف عليه وهو يقول:
"ماذا ؟ هل كنت تتنصت علي وأنا احدث نفسي ؟"
قال له مصعب وهو يبتسم:
" لا لا لم اتنصت، بل ناديت عليك كثيراً ولم تجبني فاقتربت منك وسمعتك تحدث الكتاب، من كنت تحدث يا أخي أسيل وزيكولا؟ أم ساحرة تحكيلها عن حلمك الغريب هذا"
" يا أحمق كيف سأحدث كتاب، وثانيا- اسمه الجاثوم، وثالثا-....."
قاطعه مصعب وقال: " لا يهمني ماهو يا أخي، يُهمني أنك بخير فقط"
نظر له حكيم بامتنان بينما عاد مصعب لضرب كيس الملاكمة.
أثناء انشغالهم؛ مصعب بكيسه وحكيم بكتبه، مر من أمام غرفتهم مزيج من مصعب وحكيم في شخص واحد، لقد كان والدهم هارون، لاحظ انشغالهم كل منهم في دنياه، فاستغل هذا ودخل الغرفة وقال:
" كيف حالكم يا أولاد ؟"
هبوا من أماكنهم سويا سريعاً، ليقفوا أمام والدهم ويقولوا:
"صباح الخير يا أبي كيف حالك؟"
"بأفضل حال يا أولاد"
ثم نظر إلى حكيم وقال:
" لمَ وجهك حزين هكذا يا حكيم؟"
نظر له حكيم وهو يتصنع ابتسامة مزيفة ويقول:
" كل شيء بخير يا أبي، هذا لأني لم انم جيدًا فقط"
بينما سارع مصعب ليقول:
" لقد مر بحلم سيء يا أبي، لقد حلم ب أن يده تُقطع "
قام حكيم سريعًا بالضغط على قدم أخيه، ليجعها كدواسة بنزين سيارة وهو يقول:
" أنه يمزح فقط يا أبي، أنت تعلم مصعب كيف يحب أن يمزح بدمه الثقيل"
نظر لهم هارون نظرة ممزوجة بالمكر والتفهم ثم تكلم بحنان وقال:
" يجب عليكم أن تعلموا أنكم عُصبة سويًا، أنتم أنا ولكن مُقسمين على اثنين، يجب أن تظلوا متحدين حتى تنتصروا على الدنيا ووحوشها، لا تحزن يا حكيم من كابوس كهذا إن يدك الحقيقية هي أخيك وأنت كذالك يا مصعب لا تستصغر حزن أو ألم أخيك أبدًا بل قف معه واستفهم منه"
نظر له التؤام بابتسامة تدل على الفهم والتدبر، فابتسم لهم الأب وخرج من الغرفة.
بعد الظهيرة في حصة اللغة العربية، في فصل يعج ب خمسين طالب، وفوقهم مروحة تصدر صريرا، ونوافذ مغلقة من السقيع الذي يضربها من الخارج، تجد جميع الطلبة منتبهين ومنصتين لما تقوله المعلمة من شرح لمادة النحو إلا واحد فقط؛ وهو مصعب، لتنتبه له المعلمة وتكتب جملة على الصبورة وتقول:
" أعرب ما تحته خط يا مصعب"
بصوت جعل كل من في الصف ينتبه ويركز معها، وينظروا لمصعب خلثة بوضعه الذي لا يُحسد عليه. ليقول مصعب بعد قلة تدبر وفهم:
" مفعول به مجرور بالنون"
ليضحك جميع الطلاب عليه، وتظهر علامات الضيق على المعلمة وتقول:
" مصعب، لا وقت للمزاح أجب على السؤال وإلا وجهتك للمدير"
وحسرتاه هم يظنونه يمزح وهو حتى لا يمزح، بل يعتقد أن هذه الإجابة الصحيحة! لم يجد مفرًا سوى بالنظر لأخية الذي يجلس بالأمام، ولكن كانت المفاجأة أن حكيم قد كتب له على ورقة- إجابة السؤال- دون أن تنتبه المعلمة، فقال مصعب سريعاً:
" فاعل مرفوع بالضمة"
نظرت له المعلمة وقالت:
" أحسنت أريدك أن تنصت وتركز معي"
أشار لها بنعم ونظر لأخيه وابتسم في صمت.
بعد نهاية اليوم الدراسي، توجه كل من مصعب وحكيم إلى المنزل سويًا، ولكن فجأة وقف حكيم بالطريق وقال:
" لقد نسيت كتابي في الفصل، سأعود لاحضره"
نظر له مصعب وقال:
" اتركه ودعنا نعود للبيت، إن الجو بارد جدًا ولن يضيع لا تقلق"
رفض حكيم فلم يجد مصعب مفر سوى قول:
" أنتظر هنا أنا أسرع منك، سأذهب لأحضره لك"
انطلق مصعب سريعاً في الطريق المعاكس بينما ظل حكيم فمكانه يُعدل من وضعية نظارته. بعد عدة دقائق هبت رياح قوية اقتلعت من حكيم نظارته ودفعت جسده للأمام قليلا، و سرعان ما انطلق حكيم يبحث عن نظارته التي اقتلعها تيار الهواء، إلى أن لمحها بصعوبة على الطريق، فانطلق سريعاً خلفها إلى أن وصل لها، ولكنه لم يلمح السيارة المسرعة القادمة! وبمجرد أن وضع النظارة على وجهه كانت السيارة أمامه مباشرة، ولكنه من حسن حظه وجد تيار هواء قوي دفعة وأسقطه على جانب الطريق وأسقط نظارته ومعه جسده، لما استوعب سقوطه وسقوط نظارته من على وجهه، أخذ يبحث عنها حوله إلى أن وجدها مرة أخرى ونظر خلفه للطريق، فإذ به يجد تيار الهواء الذي دفعه لم يكن مجرد تيار من الهواء البارد، بل كان تيار من جسد أخيه مصعب؛ دفعه ليسقطه على جانب الطريق بينما صدمته هو السيارة لتسقطه جثة هامدة.
حينما استوعب حكيم ما حدث، عجز لسانه عن الحديث، وشعر بألم فظيع بيده اليمنى، وكل مادار بعقله في هذه اللحظة هو كابوسه، لم تكن مجرد يد يفقدها، بل كان أخيه، لهذا شعر أنه عاري تماماً، لم يتمالك عقله و جسده الصدمة، فسقط مغشياً عليه على جانب الطريق.